صراعات الميلاد وتحولات الممات
ولد ألبرت أينشتاين، أواخر القرن التاسع عشر في زمن لم تكن فيه الخارطة السياسية لأوربا قد تشكلت واستقرت بعد على هيئة واضحة المعالم، وكان زمن ميلاده هو زمن الإمبراطوريات القديمة، فقد ولد أينشتاين في ألمانيا وقت أن كانت تدعى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكانت وقتذلك واحدة من كبريات دول العالم، كانت روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية في الشرق، وألمانيا القيصرية في الوسط، وفرنسا وبريطانيا في الغرب، هي زمرة القوى السياسية والعسكرية التي تمسك بزمام أوربا والعالم القديم في ذلك الوقت، وبعيدا وراء البحار، كان الاتحاد الأمريكي الناشئ يسير بخطى وئيدةٍ ثابتة على طريق بناء إمبراطورية شامخة بعيدا عن تناقضات أوربا ونزاعاتها التاريخية والجغرافية..
وحين توفي أينشتاين.. كان وجه العالم قد تغير تماما عما كان عليه، فقد ذهب مجد الإمبراطوريات القديمة وانهارت الحكومات الملكية والقيصرية وذهبت خلافة المسلمين وزالت قدمهم من أوربا، وقام الاتحاد الأمريكي من وراء البحر ماردا يخفي من وراءه وجه الشمس، واتسق البناء الشيوعي متمحورا حول الإمبراطورية الروسية القديمة وغاض العملاق الألماني وغاب مجده عن العالم دهرا.
هذه النقلة التاريخية الهائلة التي حدثت بين ميلاد أينشتاين وفاته، كانت على كل المستويات انتقالا للبشرية كلها بين زمنين مختلفين، وكأن العالم كله قد ارتدى ثوبا جديدا وبدأ حياة جديدة، وكان أينشتاين ذاته بكل مفردات حياته العلمية ونظرياته وأعماله الثورية في عالم الفيزياء رمزا لهذه النقلة التي حدثت للبشرية على امتداد حياته، وكان هو ذاته واحدا ممن كان لهم أكبر الأثر في إحداث هذه النقلة.
فقد كانت إنجازاته، ونظرياته العلمية واكتشافاته لها أثر بالغ في
رحلة حياة أينشتاين
في عام 1879 م بمدينة "أولم" (Ulm) جنوب ألمانيا ولد ألبرت لوالدين يهودين هما "هيرمان أينشتاين" و"ني بولين كوخ"، لم تستطع الكلمات أن تنفلت من بين شفتيه إلا في وقت متأخر (نسبيا) فقد بدأ النطق في الثالثة من عمره تقريبا، وبدت على الطفل الصغير صعوبة الاستيعاب في سنوات دراسته الأولى وشكا ذلك معلموه في المدرسة آنذاك.
درس في ميونخ إلى الجنوب الشرقي من أولم، ثم انتقل مع والديه إلى إيطاليا بعد أن تكاثرت خسائر والده، درس فترة يسيرة في مدينة ميلانو، وانتقل بعد ذلك إلى سويسرا ليتم سنوات دراسته الثانوية ثم التحق بالمعهد الاتحادي السويسري للثقافة في مدينة زيوريخ عام 1895.
وفي عام 1896 تخلى ألبرت عن هويته الألمانية وصار بغير جنسية أو انتماء رسمي لدولة بعينها، وعندما تخرج عام 1900 لم يرشح لدخول الجامعة، وبعد عام من هذا التاريخ صار ألبرت أينشتاين مواطنا سويسريا.
التحق ألبرت ك"مختبِر" بمكتب تسجيل براءات الاختراع السويسري عام 1902، واستغل هذه الفترة وقام بتحضير رسالة الدكتوراة حول أبعاد الجزيئات، وحصل على درجة الدكتوراة في عام 1905 من جامعة زيورخ.
فقد كانت إنجازاته، ونظرياته العلمية واكتشافاته لها أثر بالغ في
إنجازات أينشتاين
عقود أو قرون من الآن، كما أن تصوراته وأفكاره كانت
وفي نفس العام (1905) كتب ألبرت أينشتاين مقالاته الأربع التي قلبت موازين الفيزياء التقليدية، دون الرجوع (فيما يبدو) إلى المراجع العلمية المتداولة آنذاك.
ويرى البعض أن أينشتاين لم يكن صاحب السبق في الحديث عن الكثير من المسائل التي أثيرت في مقاله الثالث حول النظرية النسبية الخاصة كتحول المادة إلى طاقة... وقد أشارت مجلة نكساس في العام الماضي إلى أن أينشتاين "كان قد كتب رسالة طويلة حول نظرية النسبية الخاصة التي كان اسمها في الواقع (الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة) في عام 1905، من دون الإشارة إلى أي مرجع. وكانت معظم الأفكار المحورية في هذه الرسالة قد توصل إليها هنريك لورنتس عالم الفيزياء الهولندي الحاصل على جائزة نوبل عام 1902، وجول هنري بوانكاريه، وذلك قبل أن يكتب أينشتاين بحثه المشهور في عام 1905.
ومهما يكن من أمر فقد قادت نظرية "النسبية الخاصة" إلى جلاء الغموض عن تجارب زمرة من الفيزيائين التقليدين مثل الأمريكين "ألبرت ميكلسون" و"إدوارد مورلي"، فقد كانت الفرضية الأولى التي انبنت عليها النسبية الخاصة (There's no ether) وهي أن الضوء لا ينتقل عبر وسط مادي من أي نوع، وإنما ينتقل في الفراغ، وأن كل ما كان يفترضه العلماء من وجود "أثير" أو وسط غير مرئي تنتقل خلاله الموجات الكهرومغناطيسية لم يكن صوابا، ولم يستدل على هذا الفرض بتجربة ناجحة وإنما أثبته بناء على فشل كل التجارب المعملية التي قامت على هذا الفرض ابتداء.
جاءت هذه النظرية لتدحض التصور المطلق للزمان والمكان، وتجعل كل ثوابت الكون الذي نعيش فيه قابلة للجدل والتفاوت.
فقد كانت إنجازاته، ونظرياته العلمية واكتشافاته لها أثر بالغ في
أينشتاين عابر بوابات الزمان
وفي عام 1908 منح أينشتاين إجازة التدريس والمحاضرة من "برن" فأقام في برلين. ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى وتلت ذلك أحداث عسكرية وسياسية تضمنت سقوط الدولة القيصرية في ألمانيا وقيام حكم جمهوري، وبدأ ألبرت أينشتاين كمواطن يهودي يواجه موجة من المعارضات والعقبات في ألمانيا خاصة مع صعود نجم الاشتراكية الوطنية وإمساك هتلر بزمام السلطة في عام 1933.
استمرت التغيرات على الساحة الدولية خاصة بعد تنبؤ أينشتاين بأن العلماء الألمان على وشك التوصل إلى تفجير نواة الذرة، وأن نواة الذرة إذا انشطرت فإنها تنتج طاقة لا حدود لها، يمكن أن توظف مدنيا أو حربيا على وجه يقلب موازين العالم العسكرية والسياسية ويكتب للشعوب نصرا أو فناء.
لذلك فقد كانترسالته الى فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي في ذلك التوقيت الحرج (عام 1939) وتنبيهه إياه إلى ضرورة إسراع الولايات المتحدة بالتوصل إلى تصنيع سلاح نوي، ومن ثم هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940 -عاملا حاسما ترتب عليه تفوق أمريكا إستراتيجيا في حربها ضد اليابان بعد أن تسببت الأخيرة في دخولها الحرب عام 1942 وقلب موازين الصراع على كلا الجانبين الأوربي والآسيوي.
التحق بعد هجرته للعمل بمعهد الدراسات المتقدمة التابع لجامعة برنستون بولاية نيوجيرسي، واستقر في الولايات المتحدة الأمريكية مواطنا أمريكيا محتفظا بجنسيته السويسرية، حتى توفي في عام 1955 بعد أن قضى في هذا العالم 76 عاما، شاهدا فيها وشريكا في تبديل وجه الدنيا ومستقبل البشرية.
كان أينشتاين واحدا من أولئك الذين اجتازوا بعقولهم حدود الواقع الذي نبصره ونتفاعل معه، ليبصر هو بما حققه من سبق علمي أبعادا من الكون الذي نعيش فيه هي أقرب في أوصافها إلى الخيال منها إلى الواقع، ولعل نظريته النسبية العامة كانت هي الرؤية التي تترجم هذا المعنى حين تحررنا من إطار إدراك حواسنا المحدودة التي نلمس من خلالها طبائع الأشياء وصفاتها، إلى رؤية أبعد وأعمق، تسبر أغوار المجهول وتستعرض عالما جديدا غير الذي ألفناه